[center]
موقف الإسلام من العلمانية
إعداد
د/ صلاح الصاوي
بسم الله الرحمن الرحيم
موقف الإسلام من العلمانية
تقديم:
إن
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا
ومن
سيئات أعمالنا من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا
مرشدًا، أشهد
أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما
بعد...
فإن
الساحة العالمية تموج في هذه الأيام بالعديد من الاتجاهات والمذاهب
الفكرية، ولكل
اتجاه من هذه الاتجاهات رموزه وأقلامه وإعلامه، ومن وراء ذلك حشود من القوى
السياسية والاقتصادية والعسكرية، ولا يخفى على المتأمل في وقائع هذا
المعترك
الفكري أنه يوشك أن يسفر عن مواجهة محتومة ينحاز فيها الناس إلى فسطاطين:
- فسطاط
للإسلام ينحاز إليه دعاة الإسلام وحملة الشريعة
ومن بقي على وفائه لدينه من الأمة.
- وفسطاط
للعلمانية ينحاز إليه دعاة التغريب وعبدة الهوى
وخصوم الشريعة من كل ملة.
- وإذا
كانت المواجهة الوشيكة تتشكل على هذا النحو فقد بات
من الضروري أن يستفيض البلاغ بحقائق الإسلام وقواطعه التي تشكل مفترق الطرق
بينه
وبين هذه العلمانية الغازية التي تحشد اليوم أجنادها وتستجمع فلولها لترمي
أمة
الإسلام عن قوس واحدة!
لقد
تعبدنا الله -عز وجل- باستبانة سبيل
المجرمين، وجعل ذلك هدفًا من أهداف التفضيل القرآني للآيات كما قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ
نُفَصِّلُ
الآَيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ﴾
[الأنعام: 55].
فسفور
الكفر والشر والإجرام ضروري لوضوح الإيمان والخير والصلاح، وإنشاء اليقين
الاعتقادي بالحق في عالم الضمائر وقوة الاندفاع به في عالم الواقع لا ينشأ
فقط من
شعور صاحب الحق أنه على الحق، بل ومن شعوره كذلك بأن الذي يحاربه على
الباطل.
من
أجل هذا فإن الحديث عن العلمانية وبيان نقضها لأصل الدين، وخروجها عما أجمع
عليه
السابقون واللاحقون من المسلمين يعد حلقة في سلسلة استبانة سبيل المجرمين،
ونرجو
أن يكون خطوة جادة على طريق استعادة الهوية واستئناف هذه الأمة لمسيرتها
الحضارية.
ولما
كان الحكم على الشيء فرعًا من تصوره فإننا نبدأ بالتعرف على هذا المذهب:
مصطلحًا،
ونشأة، وتغلغلا، وآثارًا، لنوطئ بذلك للحديث عن موقف الإسلام منه، وما يجب
على أمة
الإسلام تجاهه.
ملاحظة: يجب
التحرز عند الكلام في هذا الموضوع من تكفير المعين إلا بشروط بابه
أولاً:
مفهوم
العلمانية:
تعبير
العلمانية تعبير محدث لم يرد له ذكر في المعاجم العربية القديمة، وقد ورد
هذا
التعبير لأول مرةٍ في قاموس ثنائي اللغة [فرنسي- عربي] ألفه أحد تراجمة
الحملة
الفرنسية واسمه لويس بقطر المصري، وقد طبع جزؤه الأول في مارس 1828م، ثم
دخلت
الكلمة بعد ذلك إلى اللغة العربية، وأول معجم في اللغة العربية ورد فيه هذا
التعبير هو المعجم الوسيط الصادر عن مجمع اللغة العربية بالقاهرة.
فقد
جاء في طبعته الأولى الصادرة سنة 1960م: (العلماني): نسبة إلى العلم، بمعنى
العالم،
وهو خلاف الديني، أو (الكهنوتي)، وبقي الأمر كذلك في الطبعة الثانية
الصادرة سنة
1979م، أما في الطبعة الثالثة، التي صدرت سنة 1985م، فقد وردت الكلمة فيه
مكسورة
العين، بعد أن ظلت مفتوحة في الطبعتين الماضيتين.
والعلماني
(مفتوحة
العين) نسبة إلى العلم (بفتح العين وسكون اللام) بمعنى العالم، أي الخلق
كله.
والعلماني
(بكسر
العين) نسبة إلى العلم التجريبي، الذي انتصر على الكنيسة، بعد صراع مرير،
سالت فيه دماء، وأزهقت فيه أرواح؛ لأن الكنيسة كانت بالمرصاد لكل رأي علمي
يعارض
التفسير الديني للكتاب المقدس.
جناية
المصطلحات:
بيد
أن استعمال هذا المصطلح بالكسر استعمال ينطوي على قدر كبير من الخطأ
والتلبيس.
- أما
انطواؤه على الخطأ فلأن الكلمة في جذورها الأوربية لا علاقة لها بالعلم،
فهي في
اللغة الإنجليزية (ykqlou`.h,)،
وهذا التعبير لا صلة له بالعلم؛ فالعلم في كل من
الإنجليزية والفرنسية ز
ذ ف ض ذ ا، والمذهب العلمي يطلق عليه ن ض ه ف ز ض ذ، أما هذه
الكلمة (غ
ن ض م خ و ذ ز ا) فهي اللا دينية أو الدنيوية، فنسبتها إلى العلم نسبة
خاطئة؛
لانبتات الصلة بين العلم وبين هذا التعبير في جذوره الأوربية.
-
وأما انطواؤه على التلبيس والإيهام فلأن في نسبة هذا التعبير إلى العلم ما
يحجب
حقيقة المعنى الذي يتضمنه هذا التعبير، ويدخله في دائرة القبول العام، خاصة
أن
مجرد الانحياز إلى العلم لا يعني نبذ الإيمان أو استبعاد الدين بالضرورة،
بل لابد
لإبراز هذا المعنى من التحليل والتوضيح، الأمر الذي تأباه طبيعة المصطلحات.
وعلى
هذا فإن المعنى الصحيح لهذا التعبير هو الفصل بين الدين والدولة، بل بتعبير
أدق
الفصل بين الدين والحياة، وعدم المبالاة بالدين أو الاعتبارات الدينية،
ونزع
القداسة عن المقررات الدينية والتعامل معها كمواريث بشرية بحتة وقصر الدين
على
جانب الشعائر التعبدية الفردية البحتة باعتباره علاقة خاصة بين الإنسان
وخالقه.
وهذا
المعنى نجده مقررًا في دائرة المعارف الغربية، ولا يثير إدراكه عندهم على
هذا
النحو حساسية ولا التباسًا.
يقول
معجم أكسفورد شرحًا لكلمة (م خ ع و ذ ز ا):
1-
دنيوي
أو مادي، ليس دينيًّا ولا روحيًّا: مثل التربية اللادينية في الفن أو
الموسيقى
اللادينية، السلطة اللادينية، الحكومة المناقضة للكنيسة.
2-
الرأي الذي يقول إنه لا ينبغي أن يكون الدين أساسًا للأخلاق والتربية.
ويقول
قاموس (العالم الجديد) لوبستر شرحًا للكلمة نفسها:
1-
الروح الدنيوية، أو الاتجاهات الدنيوية، ونحو ذلك وعلى الخصوص نظام من
المبادئ
والتطبيقات (ن ز ذ ض ه ذ خ م ) يرفض أي شكوى من أشكال الإيمان
والعبادة.
2-
الاعتقاد
بأن الدين والشئون الكنسية لا دخل لها في شئون الدولة خاصة التربية العامة.
ويقول
المعجم الدولي الثالث الجديد كلمة (غ ن ض م خ و ذ ز يا):
اتجاه
في الحياة أو في شأن خاص يقوم على مبدأ أن الدين أو الاعتبارات الدينية يجب
ألا تتدخل
في الحكومة، أو استبعاد هذه الاعتبارات استبعادًا مقصودًا، فهي تعني مثلاً
السياسة
اللادينية البحتة في الحكومة.
وهي
نظام اجتماعي في الأخلاق مؤسس على فكرة وجوب قيام القيم السلوكية والخلقية
على
اعتبارات الحياة المعاصرة والتضامن الاجتماعي دون النظر إلى الدين.
نشأة
العلمانية:
لم
تنشأ العلمانية في بلاد الإسلام، ولم تعرفها أرض المشرق بصفة عامة، وإنما
كانت
نشأتها في أوروبا الصليبية في أعقاب صراع طويل بين الكنيسة وبين السلطة
الزمنية؛
حيث سيطرت الكنيسة على كل شيء، فالعلم والتربية والأخلاق والسياسة
والاقتصاد
والحكم والأدب والفن مرده إلى سلطان الكنيسة، وكل ما خالف تفسيرات الكنيسة
ومقولاتها فهو باطل، وكل من اعتنق شيئًا مخالفًا لما تقول به الكنيسة وجبت
محاكمته، وربما وصل الأمر بهم إلى إعدامه حرقًا، ولقد بلغ الذي صدرت ضدهم
أحكام من
الكنيسة 340 ألفًا حتى سنة 1801م، وأحرق مائتان أحياء، ولم يكن هذا الأمر
محتملاً
لا من جمهور الناس ولا من العلماء والمفكرين.
فكان
التمرد السياسي على الكنيسة من قبل بعض الملوك كما فعل فريدريك الثاني الذي
أقام
إمارة علمانية في جنوب إيطاليا وكان جريئًا ثائرًا على القديم في جميع
مناهجه
وآرائه، ولهذه نعته معاصروه بأنه أعجوبة العالم.
ثم
كان التمرد العلمي من قبل كثير من العلماء الذين أعلنوا إيمانهم بحقائق
العلم التي
تخالف مقررات الكتاب المقدس، والذين ووجهوا بالحرمان الكنسي، وبأحكام
مختلفة انتهت
ببعضهم إلى الإعدام حرقًا.
ثم
تتابعت صور التمرد ضد الطغيان الكنسي تتصاعد حينًا وتخبو حينًا آخر حتى
انتهى
الأمر بأطراف هذا الصراع إلى هذه المثنوية التي تمثلها هذه العبارات
الكنسية
الشائعة: (أعط ما لقيصر لقيصر، وما لله لله).
موقف
الإسلام من العلمانية:
العلمانية
والإيمان
نقيضان، فإن الإيمان يقتضي الانقياد والإذعان لما جاء من عند الله،
والعلمانية تقتضي التمرد على الوحي، والكفر بمرجعيته في علاقة الدين
بالحياة،
وإطلاق العنان للأهواء البشرية بلا حدود.
الإيمان
يقتضي
تعظيم شعائر الله وتقديس كتابه والتعبد بطاعته، والعلمانية تقتضي - كما
سبق
- نزع القداسة عن جميع المقررات الدينية، والتعامل معها باعتبارها مورايث
بشرية
بحتة تخضع لما تخضع له سائر المفاهيم البشرية من النقد والتعديل أو الإلغاء
بالكلية في ضوء ما تقتضيه المصلحة البشرية البحتة.
والعلمانية
بهذا
النحو لا تجتمع مع أصل دين الإسلام، بل إن شئت الدقة لا تجتمع مع أصل دين
سماوي بوجه من الوجوه، فهي شرك في التوحيد ونقض للإيمان المجمل، وهي ثورة
على
النبوة، وهدم لأصل الدين وحقيقة الإسلام.
وليس
هذا التقرير من مجازفات الأقوال ولا من شطحات الأقلام بل هو الحقيقة التي
تحتشد
لإثباتها حقائق الكتاب والسنة، وفيما يلي تفصيل القول في ذلك:
العلمانية
شرك
في التوحيد:
العلمانية
شرك
في التوحيد في جانبي الربوية والألوهية:
أما
كونها شركًا في التوحيد في جانب الربوبية؛ فلما تتضمنه من منازعة الرب -جل
وعلا-
في جانب الهداية والأمر الشرعي؛ ذلك أن الذي تفرد بخلق هذا الكون تفرد كذلك
بحق
هدايته وتوجيه الخطاب الملزم إليه.
فالخلق
والأمر
من أخص خصائص الربوبية وأجمع صفاتها، كما قال تعالى: ﴿أَلاَ
لَهُ الْخَلْقُ
وَالأمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾
[الأعراف: 54].
والأمر
في
لغة الشارع يأتي بمعنيين:
الأول:
الأمر الكوني وهو الذي به يدبر شئون المخلوقات، وبه يقول للشيء كن فيكون،
ومنه
قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا
أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾
[يس:
82]، وقوله تعالى: ﴿ وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ
وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ﴾
[القمر: 50].
الثاني:
الأمر الشرعي: وهو الذي به يفصل الحلال والحرام، الأمر والنهي وسائر
الشرائع، ومنه
قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا
مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا
بِآيَاتِنَا
يُوقِنُونَ﴾ [السجدة: 24].
وإذا
كانت البشرية لم تعرف في تاريخها من نازع الله في عموم الخلق أو الأمر
بمفهومه
الكوني فقد حفل تاريخها بمن نازع الله في جانب الأمر الشرعي وادعى مشاركته
فيه،
فقد حكي لنا القرآن الكريم عن من قال: ﴿سَأُنْزِلُ
مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللهُ﴾
[الأنعام: 93]، ومن قال: ﴿مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى
وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ
سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾ [غافر: 29]، ورأينا في واقعنا
المعاصر
دعاة العلمانية وهم يقولون: لا سياسة في الدين ولا دين في السياسة! بل من
اجترأ
على ربه وقال: إن القوانين الوضعية خير من الشريعة الإسلامية؛ لأن الأولى
تمثل
الحضارة والمدنية، والثانية تمثل البداوة والرجعية!!
ولا
يتحقق توحيد الربوبية إلا بإفراد الله -جل وعلا- بالخلق والأمر بقسميه:
الكوني
والشرعي، وإفراده بالأمر الشرعي يقتضي الإقرار له وحده بالسيادة العليا
والتشريع
المطلق، فلا حلال إلا ما أحله، ولا حرام إلا ما حرمه، ولا دين إلا ما شرعه،
ومن
سوغ للناس اتباع شريعة غير شريعته فهو كافر مشرك.
وقد
اتفق الأصوليون أجمعون على أن الحاكم لجميع أفعال المكلفين إنما هو الله
-عز وجل-
فهو وحده مصدر جميع الأحكام الشرعية؛ ولذلك اشتهر من أصولهم: (لا حكم إلا
لله).
حتى
هؤلاء الذين قالوا باستقلال العقل بمعرفة بعض الأحكام الشرعية لم ينازعوا
في هذا
الأصل السابق، وإنما كان نزاعهم حول كيفية التعرف على حكم الله -عز وجل-،
فدور
العقل عندهم هو دور التعرف على حكم الله الكاشف عنه أحيانًا، مع اتفاق
الجميع على
أن الحاكم الذي يصدر الأحكام وينشئها إنما هو الله -عز وجل-، ومن هنا كان
اتفاقهم
على تعريف الحكم الشرعي بأنه: (خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين طلبًا أو
تخييرًا
أو وضعًا).
وقد
كانت ربوبية الأحبار والرهبان في بني إسرائيل في باب التشريع؛ فقد أحلوا
حرام الله
وحرموا حلاله، فتابعهم الناس على ذلك، فلم تكن الربوبية فيهم في جانب الخلق
أو
الأمر الكوني، بل كانت في جانب الهداية والأمر الشرعي.
عن
عدي بن حاتم أنه سمع النبي ×
يقرأ: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ
وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ﴾
[التوبة: 31]،
فقلت: إنا لسنا نعبدهم، قال: "أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون
ما حرم الله فتحلونه؟"، فقلت: بلى، قال: "فتلك عبادتهم"،
رواه أحمد والترمذي.
فحقيقة
الإقرار
بالربوبية لا تتمثل في إفراد الله -جل وعلا- بالخلق والتدبير الكوني فحسب
بل تمتد لتشمل إفراده تعالى بالأمر والقضاء الشرعي، وقبول ما جاء به رسوله ×
من
الهدى والشرائع؛ وذلك لأن المنازعة في الأمر الشرعي كالمنازعة في الأمر
الكوني ولا
فرق، فإن الذي أوجب الرضا بقدره هو الذي أوجب التحاكم إلى شرعه، وهو
القائل: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للهِ
أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ﴾
[يوسف: 40]،
والقائل: ﴿أَمْ
لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ
اللهُ﴾
[الشورى: 21].
والإقرار
المقصود
في هذا المقام هو الإقرار الانقيادي الذي يعني إنشاء الالتزام، وليس مجرد
الإقرار الخبري الذي لا يتجاوز دائرة التصديق والإخبار، فلو أن رجلاً أقر
بصدق ما
جاء به النبي × ولم
يتبعه على ذلك بل حاربه وعاداه فإنه لا يكون موحدًا
بحال من الأحوال.
أما
كونها شركًا في التوحيد في جانب الألوهية؛ فلما تمهد في حقائق التوحيد من
أن توحيد
العبادة ينتظم جانبين رئيسين: توحيد الإرادة والقصد وتوحيد الطاعة
والاتباع.
أما
توحيد الإرادة والقصد فيراد به إفراد الله بالشعائر التعبدية كالصلاة والحج
والدعاء والنذر والذبح ونحوه.
وأما
توحيد الطاعة والاتباع فيراد به إفراد الله بكمال الخضوع والطاعة وإخراج
المكلف عن
داعية الهوى حتى يكون عبدًا لمولاه، وذلك بتحكيم شرعه وحده، والقبول التام
لكل ما
جاء به نبيه ×
والبراءة من كل ما سوى ذلك من الأهواء البشرية.
وإلى هذين
الجانبين يشير قوله تعالى في سورة الأنعام: ﴿قُلْ
إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى
صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا
كَانَ
مِنَ الْمُشْرِكِينَ * قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ
وَمَمَاتِي للهِ
رَبِّ الْعَالَمِينَ* لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا
أَوَّلُ
الْمُسْلِمِينَ﴾ [الأنعام: 161: 163].
فالآية
الأولى
تشير إلى توحيد الطاعة والاتباع، فلا يتلقى الهدى إلا من الله، والآيتان
اللتان بعدها تشيران إلى توحيد الإرادة والقصد، فلا يتوجه بالأعمال إلا إلى
الله.
فالانقياد
لله
-عز وجل- والتزام طاعته هو أحد ركني العبادة، فمن زعم حب الله -عز وجل-
وتصديقه ولكنه رفض الطاعة له وأبي الانقياد لأمره، ورسم لنفسه طريقًا آخر
مضادًّا
للصراط المستقيم الذي أمر الله به واتخذ ذلك منهجا ثابتًا وديدنًا مضطردًا
فقد كفر
بألوهية الله عليه، وجعل نفسه ندًّا للذي خلقه، فإذا ما انضم إلى هذا أن
والى على
ذلك وعادى على ذلك، وشرح بهذا التمرد صدرًا، وأقسم على احترامه والتمسك به،
وصب
ويله وبطشه على كل من دعا إلى خلافه من إقامة الدين والتزام شرائعه كما
ديدن
الطواغيت في واقعنا المعاصر فقد شهد على نفسه بما لا ينبغي أن يختلف عليه
من الإشراك
والردة.
قال
تعالى: ﴿وَلاَ
تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ
وَإِنَّ
الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ
أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ﴾
[الأنعام: 121].
- وقد
روى الحافظ ابن كثير عن سعيد بن جبير قال: خاصمت اليهود النبي ×
فقالوا: نأكل مما قتلنا ولا نأكل مما قتل الله؟ فأنزل الله هذه الآية.
-
وروي أيضاً عن ابن عباس قال: لما نزلت: ﴿وَلاَ
تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ
اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ﴾ أرسلت فارس إلى قريش أن
خاصموا
محمدًا وقولوا له: فما تذبح أنت بيدك بسكين فهو حلال، وما ذبح الله -عز
وجل-
بشمشير من ذهب يعني الميتة فهو حرام؟! فنزلت هذه الآية: ﴿وَإِنَّ
الشَّيَاطِينَ
لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ
إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ﴾ [الأنعام: 121].
- قال
ابن كثير: ﴿وَإِنْ
أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ﴾ أي:
حيث عدلتم
عن أمر الله لكم وشرعه إلى قول غيره فقدمتم غيره عليه فهذا هو الشرك، كقوله
تعالى:
﴿اتَّخَذُوا
أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ﴾
[التوبة: 31].
والمقصود
في
هذا المقام: أن الله -عز وجل- قد جعل عُدولهم إلى غير شريعة الله يعد
إشراكًا
بالله.
العلمانية
ثورة
على النبوة:
لا
يخفى أن الإيمان بنبوة محمد × هو
المدخل إلى
الإسلام، فإن الشهادة لله بالوحدانية ولمحمد ×
بالرسالة هما أول واجب المكلف، وأول ما يخاطب به الناس عند الدعوة إلى
الإسلام،
كما قال ×
لمعاذ بن جبل عندما بعثه إلى اليمن: "إنك تأتي
قومًا من أهل الكتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله
وأن محمدًا
رسول الله ..." الحديث.
وحقيقة
الإيمان
بنبوته يتمثل في تصديق خبره جملة وعلى الغيب، والتزام هديه جملة وعلى
الغيب، فما آمن بمحمد - × وما
ارتضى نبوته
من كذب بخبره أو رد عليه شرعه؛ لأن حقيقة الإيمان هي التصديق والانقياد،
ومن لم
يحصل في قلبه التصديق والانقياد فهو كافر بالله العظيم.
يقول
ابن القيم رحمه الله: (وأما الرضى بنبيه رسولاً: فيتضمن كمال الانقياد له
والتسليم
المطلق إليه، بحيث يكون أولى به من نفسه، فلا يتلقى الهدى إلا من مواقع
كلماته،
ولا يحاكم إلا إليه، ولا يحكم عليه غيره، ولا يرضى بحكم غيره البتة، لا في
شيء من
أسماء الرب وصفاته وأفعاله، ولا في شيء من أذواق حقائق الإيمان ومقاماته،
ولا في
شيء من أحكام ظاهره وباطنه. لا يرضى في ذلك بحكم غيره، ولا يرضى إلا بحكمه)
[مدارج
السالكين 2/ 172].
قال
تعالى: ﴿فَلاَ
وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ
ثُمَّ
لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا
تَسْلِيمًا﴾
[النساء: 65].
قال
ابن كثير رحمه الله: "يقسم تعالى بنفسه الكريمة المقدسة أنه لا يؤمن أحد
حتى
يحكِّم الرسول ×
في
جميع الأمور، فما حكم به فهو الحق الذي يجب الانقياد له باطنًا وظاهرًا،
ولهذا
قال: ﴿ثُمَّ
لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا
تَسْلِيمًا﴾ أي
إذا حكموك يطيعونك في بواطنهم فلا يجدون في أنفسهم حرجًا مما حكمت به
وينقادون له
في الظاهر والباطن، فيسلمون لذلك تسليمًا كليًّا من غير ممانعة ولا مدافعة
ولا
منازعة كما ورد في الحديث: "والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يكون
هواه
تبعًا لما جئت به" [تفسير ابن كثير: 1/ 520].
ويقول
الجصاص رحمه الله: "وفي هذه الآية دلالة على أن من رد شيئًا من أوامر الله
تعالى أو أوامر رسوله × فهو
خارج من
الإسلام، سواء رده من جهة الشك فيه أو من جهة ترك القبول والامتناع من
التسليم، وذلك
يوجب صحة ما ذهب إليه الصحابة في حكمهم بارتداد من امتنع من أداء الزكاة
وقتلهم
وسبى ذراريهم؛ لأن الله تعالى حكم بأن من لم يسلم للنبي ×
قضاءه وحكمه فليس من أهل الإيمان" [أحكام القرآن للجصاص: 3/ 181].
فأين
هذا من ترك التحاكم إلى شريعته ابتداء، واتهامها بالبداوة والرجعية؟ أو
الجمود
وعدم الصلاحية للتطبيق؟
لقد
نُهي الصحابة في القرآن عن أن يرفعوا أصواتهم فوق صوته ×،
وأن
يجهروا له بالقول كجهر بعضهم لبعض، وجعل من هذا الفعل - الذي قد يبدو
يسيرًا -
سببًا لحبوط الأعمال، وسبيلا قاصدًا إلى الردة عن الإسلام، فقال تعالى: ﴿يَأَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لاَ
تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلاَ تَجْهَرُوا لَهُ
بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ
وَأَنْتُمْ
لاَ تَشْعُرُونَ﴾ [الحجرات: 2].
يقول
ابن القيم - رحمه الله -: "فإذا كان رفع أصواتهم فوق صوته سببًا لحبوط
أعمالهم، فكيف تقديم آرائهم وعقولهم وأذواقهم وسياساتهم ومعارفهم على ما
جاء به
ورفعها عليه؟ أليس هذا أولى أن يكون محبطًا لأعمالهم؟" [أعلام الموقعين
لابن
القيم: 1/ 51].
فكيف
إذا كان الأمر إهدارًا لشريعته، واجتراء على هديه، وتطاولاً على سنته،
ونبذًا لما
جاء به من شرائع الإسلام بالكلية؟!!
العلمانية
نقض
لعقد الإيمان المجمل:
فقد
تمهَّد في أصول أهل السنة والجماعة أن الإيمان قولٌ وعملٌ يزيد وينقص، وأن
أصله
تصديق الخبر والانقياد للأمر، وإن لم يحصل في قلبه التصديق والانقياد فهو
كافر بالله
العظيم.
فلا
يثبت عقد الإيمان بمجرد التصديق الخبري، بل لابد من التكلم بالإيمان على
وجه
الإنشاء المتضمن للالتزام والانقياد؛ ولهذا لما جاء نفر من اليهود إلى
النبي ×
وقالوا: (نشهد أنك لرسول) لم يكونوا مسلمين بذلك؛ لأنهم قالوا ذلك على سبيل
الإخبار عما في أنفسهم فحسب، أي نعلم ونجزم أنك رسول الله، قال: "فلم لا
تتبعوني؟" ، قالوا: نخاف يهود!
يقول
ابن القيم رحمه الله: "ونحن نقول: الإيمان هو التصديق، ولكن ليس التصديق
مجرد
اعتقاد صدق المخبر دون الانقياد له، ولو كان مجرد اعتقاد التصديق إيمانًا
لكان
إبليس وفرعون وقومه وقوم صالح واليهود الذين عرفوا أن محمدًا رسول الله كما
يعرفون
أبناءهم مؤمنين مصدقين، فالتصديق إنما يتم بأمرين: أحدهما: اعتقاد الصدق،
والثاني:
محبة القلب وانقياده" [الصلاة لابن القيم: 19 - 20].
ويقول
القسطلاني في تعريف الإيمان:
"وهو لغةً التصديق، وهو كما قال
التفتازاني: إذعان لحكم المخبر وقبوله، فليس حقيقة التصديق أن يقع في القلب
نسبة
التصديق إلى الخبر أو المخبر من غير إذعان وقبول، بل هو إذعان وقبول لذلك؛
بحيث
يقع عليه اسم التسليم" [إرشاد الساري: 1/ 82].
ولا
يخفى أن العلمانية بردِّها لشريعة الله، وامتناعها عن قبول ما أنزل الله قد
أسقطت
ركن الانقياد من حقيقة الإيمان، فتكون نقضًا للإيمان المجمل الذي لا تثبت
صفة
الإسلام إلا باستيفائه، ولا يبقى معها من الإيمان - إن بقيت على ادعائه -
إلا
التصديق الخبري المحض كالذي كان مع أحبار اليهود الذين شهدوا لرسول الله ×
بالرسالة
لما أجابهم عن أسئلتهم بما يعلمون من كتبهم فقال لهم ×
:
"فما يمنعكم من اتباعي؟" قالوا: نخاف قومنا يهود!
أو
الذي كان مع هرقل الذي أعلن تعظيمه للنبي ×
ولكن
امتنع عن اتباعه خشيةً على ملكه.
أو
الذي كان مع أبي طالب الذي أعلن بأن دين محمد من خير أديان البرية، والذي
ظل عمره
كله يحوط رسول الله ×
ويمنعه، ولكن امتنع عن اتباعه خشية الملامة ومسبة العرب
له بأن استه تعلو رأسه!!
وإننا
لو أثبتنا إيمانًا أو صححنا توحيدًا لمن كان حظه من الشرائع السماوية مجرد
اعتقاد
صدقها وأنها منزلة من عند الله لحكمنا بإيمان أغلب من في الأرض!!
ذلك
أن آيات الله مبصرة، فلا يملك القلب البشري تجاهها إلا الإذعان والتسليم،
لاسيما
إذا ما عرضت خالية من التشويه والتحريف، ولكن يختلف الناس بعد ذلك في
الموقف
العملي: أهو الإخبات والطاعة؟ أم الإباء والاستكبار؟!
فالإيمان
-
كما سبق- ليس مجرد التصديق، ولكنه الإقرار والطمأنينة وذلك لأن التصديق
إنما
يعرض للخبر فقط، فأما الأمر فليس فيه تصديق من حيث هو أمر، وكلام الله خبر
وأمر،
فالخبر يستوجب تصديق المخبر والأمر يستوجب الانقياد له والاستسلام، وهو عمل
في
القلب جماعه الخضوع والانقياد للأمر، وإن لم يفعل المأمور به، فإذا قوبل
الخبر
بالتصديق والأمر بالانقياد فقد حصل أصل الإيمان في القلب وهو الطمأنينة
والإقرار،
فإن اشتقاقه من الأمن الذي هو القرار والطمأنينة، وذلك إنما يحصل إذا استقر
في
القلب التصديق والانقياد.
العلمانية
استحلال
للحكم بغير ما أنزل الله:
إن
العلمانية بما تقوم عليه من تبني الكفر بمرجعية الشريعة في علاقة الدين
بالحياة،
وامتناعها عن الالتزام بشرائع الإسلام، واتهامها لمن ينازعها في ذلك
بالرجعية
والتطرف والإرهاب..إلخ، تعدُّ استحلالاً للتحاكم في الدماء والأموال
والأعراض إلى
غير ما أنزل الله، وتسويغًا للخروج على شريعة الإسلام في كل ما يتعلق بشئون
الحياة، وكل ذلك من الكفر الصراح الذي لا يجتمع مع أصل الإسلام بحال، فقد
اتفقت
الأمة على أن استحلال المحرمات القطعية كفر بالإجماع، لم ينازع في ذلك -
فيما نعلم
– أحد، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:
"والإنسان
متى
حلل الحرام المجمع عليه، أو حرم الحلال المجمع عليه، أو بدل الشرع المجمع
عليه
كان كافرًا ومرتدًّا باتفاق الفقهاء، وفي مثل هذا نزل قول الله تعالى: ﴿وَمَن
لَّمْ يَحْكُمْ بِمَا
أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ أي
هو المستحل
للحكم بغير ما أنزل الله" [مجموع فتاوى ابن تيمية: 3/ 367].
إن في
الامتناع عن الالتزام بشرائع الإسلام أو بالحكم بها، استباحة لما حرم الله
ورسوله ×،
وذلك أن الاستحلال ليس مجرد عدم الاعتقاد بأن الله حرم هذا الشيء، بل يكون
أيضًا
مع اعتقاد حرمته وعدم التزام هذا التحريم.
فللاستحلال
صورتان:
الأولى:
عدم
اعتقاد الحرمة، ومرده حينئذ إلى خلل في الإيمان بالربوبية والرسالة، يؤدي
إلى كفر
التكذيب.
الثانية:
اعتقاد الحرمة والامتناع عن التزام هذا التحريم، ومرده في هذه الحالة إما
إلى خلل
في التصديق بصفة من صفات الشارع -جل وعلا- كالحكمة والقدرة، وإما لمجرد
التمرد واتباع
هوى النفس، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:
"وبيان
هذا
أن من فعل المحارم مستحلاًّ لها فهو كافر بالاتفاق، فإنه ما آمن بالقرآن
من
استحل محارمه، وكذلك لو استحلها من غير فعل، والاستحلال: اعتقاد أن الله لم
يحرمها
وتارة بعدم اعتقاد أن الله حرمها، وهذا يكون لخلل في الإيمان بالربوبية،
ولخلل في الإيمان
بالرسالة، ويكون جحدًا محضًا غير مبني على مقدمة.
وتارة
يعلم أن الله حرمها، ويعلم أن الرسول إنما حرم ما حرمه الله، ثم يمتنع عن
التزام
التحريم ويعاند المحرم فهذا أشد كفرًا ممن قبله، وقد يكون هذا مع علمه أن
من لم يلتزم
هذا التحريم عاقبه الله وعذبه، ثم إن هذا الامتناع والإباء إما لخلل في
اعتقاد
حكمة الآمر وقدرته فيعود هذا إلى عدم التصديق بصفة من صفاته، وقد يكون مع
العلم
بجميع ما يصدق به تمردًا أو اتباعًا لغرض النفس، وحقيقته كفر هذا؛ لأنه
يعترف لله
ورسوله بكل ما أخبر به، ويصدق بكل ما يصدق به المؤمنون، لكنه يكره ذلك
ويبغضه
ويسخطه لعدم موافقته لمراده ومشتهاه، ويقول أنا لا أقر بذلك ولا ألتزمه،
وأبغض هذا
الحق وأنفر عنه، فهذا نوع غير النوع الأول، وتكفير هذا معلوم بالاضطرار من
دين
الإسلام" [الصارم المسلول لابن تيمية: 521 - 522].
فلا
يشترط إذن في الاستحلال أن يكون دينيًّا، أي يعتقد حل المحرمات دينًا، بل
يكفي ألا
يلتزم بهذا التحريم وإن كان مقرًّا به لكي يكون مستحلاًّ كافرًا بإجماع
الأمة.
فمن
امتنع عن التزام الحكم بشرائع الإسلام، وتحاكم في الدماء والأموال والأعراض
إلى
غير ما أنزل الله، وشرع للناس من الأحكام ما لم يأذن به الله فإنه يكون
مستجيزًا
مخالفة حكم الله، مستحلاًّ للحكم بغير ما أنزل الله، وتكفيره معلوم
بالاضطرار من
دين الإسلام.
العلمانية
منازعة
في أصل دين الإسلام:
فالإسلام
كما
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "يتضمن الاستسلام لله وحده، فمن استسلم له
ولغيره كان مشركًا، ومن لم يستسلم له كان مستكبرًا عن عبادته، والمشرك به
والمستكبر عن عبادته كافر، والاستسلام له وحده يتضمن عبادته وحده وطاعته
وحده،
وهذا دين الإسلام الذي لا يقبل الله غيره، وذلك إنما يكون بأن يطاع في كل
وقت بما
أمر به في ذلك الوقت" [مجموع فتاوى ابن تيمية: 3/ 91].
ولا
شك أن العلمانية بما تتضمنه من رفض الاستسلام لله وحده، وإعلان الكفر
بمرجعية وحيه
في علاقة الدين بالدولة، ورفض الدخول ابتداء تحت دائرة التكليف فإنها بهذا
تكون
منازعة لدين الإسلام في أصله، ومناقضة له في أساسه ولبه.
ولكي
تزداد هذه الحقيقة جلاء لابد أن نتعرف على حقيقة الدين وما يندرج تحته من
شرائع
وتكليفات؛ ذلك أن كثيرًا من الناس في هذا العصر يخطئ في فهم حقيقة الدين
الذي
أنزله الله على محمد ×
ويظنه لا يتجاوز ما يقام فينا من شعائر العبادات، وما
يهتف به الوعاظ والخطباء من الدعوة إلى مكارم الأخلاق، أما ما وراء ذلك من
شئون
الحياة فلا علاقة للدين به طبقًا لمقولة: دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله!
أو
لمقولة: لا دين في السياسية ولا سياسة في الدين، ولا يخفى أن من كانوا كذلك
إنما
يتصورون دينًا آخر ويسمونه الإسلام.
فالدين
هو
جملة ما جاء به محمد × من
عند الله من
عقائد وعبادات وشرائع، كل ذلك داخل في مسمى الدين، مقصود بقوله تعالى: ﴿[color=#c00000][color=windowtext][font='Simplified Arabic']إ[b]ِنَّ