[center][center]جواب عن اللحية والموسيقى
الجواب لسماحة الشيخ
أحمد بن حمد الخليلي
الجواب: الحمد لله
الذي وعد من أطاعه بنعيم جنانه، وتوعد من عصاه بجحيم نيرانه، والصلاة
والسلام على سيدنا محمد؛ الذي بعثه الله بالحق القويم، والذكر الحكيم
والصراط المستقيم، فبشر وأنذر ، ورغب وحذر، وعلى آله وصحبه ومن تعبهم
بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث
كتاب الله وخير الهدي هدي محمد r وشر الأمور
محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ألا وإن
الله قد حذر من مضلات الفتن وأهواء النفوس، وزيغ العقول، وقد تركنا النبي r على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ
عنها إلا هالك، ألا وإن حكمة الله اقتضت أن ينقسم عباده إلى فئتين، فئة
هادية مهتدية، وأخرى ضالة مضلة، لينفذ فيهم قضاؤه المحتوم وقدره الغالب، ]مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ
يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً [([1])، وبهذا كانوا حزبين، حزب أكرمه
الله بإضافته إلى نفسه، وآخر أهانه بإضافته إلى الشيطان، وقال في أول
الحزبين: ]أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا
إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْمُفْلِحُونَ[([2])، وقال في الآخر: ] أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ
حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمْ الْخَاسِرُونَ[([3])، وكما انقسموا في البداية إلى
طريقين هم منقسمون أيضا في النهاية إلى مصيرين ]فَرِيقٌ
فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ[([4])، وحكمة الله في ذلك بالغة تعجز
عقولنا عن إدراكها، ويرتد دونها بصر البصيرة خاسئا وهو حسير ولا اعتراض على
الله في هذا، ولا استنكار لحكمه ، فهو ] لا
يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [([5])، وما هذا وغيره مما نراه في
أحوال الناس، وما يجري في هذا الوجود كله إلا من مظاهر ربوبيته تعالى
القاهرة، وقدرته الواسعة، ] لَوْ يَشَاءُ
اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً [([6])، ]
وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً
أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ[([7])، ]
وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا
يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ % إِلاَّ مَنْ
رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ
لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [([8]).
واعلم أن الاستقامة
ليست انتماء صوريا مجرداً من الالتزام، وإنما هي منهج رباني قائم على
العقيدة الصحيحة، والسلوك المستقيم، إذ هي تجسيد للإسلام الحق؛ الذي هو أن
يسلم العبد روحه وجسمه، ظاهره وباطنه، عقله وقلبه، لله الذي خلقه وخلق
الوجود كله كما هو واضح في قوله تعالى: ]قُلْ
إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً
مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ % قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي
وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ %
لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ[([9])، وعليه فلا يجوز أن ينسب إليها
من مرق من الدين، بعقيدة زائغة أو سلوك منحرف، أو أي عمل خارج عن حدود الله
تعالى، فإن الله تعالى أمر ونهى، ووعد وأوعد وبعث بذلك رسله، وأنزل به
كتبه، وأتم على عباده نعمته، وأكمل لهم الدين ببعثه عبده ورسوله محمدا r هاديا وبشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه
وسراجا منيرا، وجعل طاعته وطاعة رسوله r
نقطة الافتراق بين أهل الحق وأهل الباطل، وحزب الهدى وحزب الضلال، ] وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا
قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ
أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً
مُبِيناً [([10]).
وقد شدد الله تعالى
في وجوب طاعته، وطاعة رسوله r حيث قال: ] قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ
تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ[([11])، وقال: ]
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ[([12])، وقال: ]وَمَنْ
يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقِهِ فَأُوْلَئِكَ
هُمْ الْفَائِزُونَ[([13]) النور، وقال: ]قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ
فَإِنْ تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا
حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ
الْبَلاغُ الْمُبِينُ[([14])، وقال: ]
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ
لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ[([15])، وجعل اتباع الرسول r مكتنفا بحبين؛ حب العبد لله؛ لأنه تصديق له، وحب
الله تعالى لعبده؛ لأنه لا يتوصل إليه إلا به، وذلك في قوله تعالى: ] قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ
فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ[([16])، وعجَّب الناس من شأن
المنافقين؛ الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل على الرسل r وما أنزل من قبله وهم يحتكمون إلى الطاغوت،
ويعرضون عن الله ورسوله وذلك في قوله: ]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ
إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى
الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ
أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً %
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى
الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً % فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا
قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ
أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً %
أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ
عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً[([17])، ثم بين أن كل رسول إنما بعث
ليطاع بإذن الله، وأنه لا يتحقق الإيمان إلا بتحكيم الرسل في كل شجار يحصل
بين المؤمنين وذلك في قوله: ] وَمَا
أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ
أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ
وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً % فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى
يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ
حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً[([18])، وبين أن طاعة الرسول r هي طاعة لله تعالى حيث قال: ]مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ
وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً[([19]) ، وبين عاقبة طاعته وطاعة رسوله
r حيث قال: ]
وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ
اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ
وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقاً %
ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنْ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيماً[([20])، وأنكر أيما إنكار على الذين
يدعون الإيمان بالله ورسوله ويدعون طاعتهما ثم يعرضون عن أمرهما وحكمهما،
حيث قال: ]وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ
وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ
ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ %
وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا
فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ[([21])، وبين منهج المؤمنين الصادقين
في هذا حيث قال: ] إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ
الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ
بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمْ
الْمُفْلِحُونَ [([22]) ، وأوضح أن الرسول r يختلف عن الناس جميعاً، في كون طاعته فيما أمر
به أو نهى عنه لا مناص لأحد عنها، وذلك في قوله: ]لا
تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً
قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذاً
فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ
فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [([23])، ولذلك كانت طاعته r تجب مطلقة غير مقيدة بقيد، بخلاف طاعة غيره من
الناس، فإنه سبحانه عطف طاعة رسوله r على
طاعته بالاستقلال، بينما ذكر طاعة أولي الأمر من المؤمنين بالتبعية، عندما
قال : ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ [([24]) ثم أمر مع التنازع والاختلاف أن
يكون الاحتكام إليه تعالى وإلى رسوله r حيث
قال: ]فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ
فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً[([25]).
وتوعد الله سبحانه
أعظم الوعيد على معصيته ومعصية رسوله r في
قوله: ]وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً[([26])، وقوله: ]وَمَنْ
يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى
وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى
وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً[([27]).
هذا؛ ولم يجعل الله
تعالى للعقول حكما فيما أمر به أو نهى عنه ولا تصرفا إلا الانقياد
والإذعان، ذلك لأن العقول - وإن كانت نورا ربانيا جعله الله هاديا لمن يسره
للهدى من البشر- هي لا تعدو أن تكون كسائر طاقات البشر لا تتجاوز حدودها
الطبعية، فليس بوسع العقول أن تكتنه الحقائق كلها، وتنفذ إلى أسرار الله في
التشريع، ومع ذلك فهي تتفاوت وقد تتباين وتختلف بحسب المؤثرات النفسية
والاجتماعية، فكأين من أحدٍ يستحسن عقله ما يستقبحه غيره، وكأين من بيئة
تستحسن ما تستقبحه غيرها من البيئات، فكم وجدنا من شعوبٍ تجمع على استحسان
أمور عجيبة تقشعر منها جلودنا، وتشمئز منها نفوسنا، فقد كان من تقاليد بعض
الشعوب الهندية أن المرأة عندهم بعد موت زوجها بفترة غير طويلة تضرم لها
نار لتلقي بنفسها فيها راضية مختارة في وسط حفل بهيج، تنطلق فيه الحناجر
بأنغام الزغردة والأهازيج، وتكون عندما تلقي بنفسها فيها بأتم زينتها
كالعروس تزف إلى زوجها، وبقدر ما تكون خطواتها أسرع إلى النار تكون أرضى
لأهلها ومجتمعها؛ لأن ذلك من تمام برِّها بزوجها، كما وجدنا بعض الشعوب
الإفريقية إذا ناهز أحدهم الاحتلام أدخل في حجر خاص لمدة ثلاثة أشهر لا
يراه فيه إلا الخاصة، وفي تلك الفترة يشقق جلده كله من وجهه إلى قدميه،
وتنقش فيه نقوش فنية متنوعة بطريق الوشم بحيث لا يغادرون شيئا من جلده إلا
وقد نال قسطه من هذا العذاب، ويظل ذلك الوشم سمة بارزة طوال الحياة، فإذا
خرج من محجره خرج بصورة غير صورته الطبعية، كأنما أنشئ من جديد بمظهر موحش
يعدونه هم من أظهر سمات الجمال والحسن، وتزاد الأنثى على ذلك بثقب شفتها
العليا ويملأ ذلك الفراغ بسداد لا يزال يوسع بمرور الزمن ليتسع الثقب كلما
امتد بها العمر، فهل زين هذا كله لهؤلاء إلا عقولهم المأفونة رغم ما يلقونه
في ذلك من عذاب قاس ينزل بهذه الأجسام الناعمة، وما يترتب عليه من تشويه
للصور، حتى ينقلب الإنسان من صورته التي فطره الله عليها إلى صورة وحش لا
تطاق رؤيته، لاسيما المرأة التي تغدوا أقبح وأوحش مع أنها في الأصل مفطورة
على حب الجمال.
وهذا يدل -بلا ريب-
على أن التشريع لو كان موكولا إلى عقول الناس لاختلفت العقول اختلافا عجيبا
في تحديد منهج الحياة، وأدى ذلك إلى اضطراب نظام المجتمع، لما يطرأ عليها
من التفاوت في الاستحسان والاستهجان.
وليت شعري؛ أنى
للعقل البشري وهو مكبل بأغلال الطبيعة أن يدرك أسرار أحكام الله تعالى
وشرعه، فلو جئنا إلى الصلاة لوجدنا فيها من الأعمال ما يقف العقل دون مرمى
حكمته بمراحل لا يمكن أن تحد بمقياس، فأنى للعقل أن يدرك حكمة تفاوت
ركعاتها، فمنها الرباعيات وهي الظهر والعصر والعشاء، ومنها الثنائية وهي
الفجر، والثلاثية وهي المغرب فمن أين للعقل أن يدرك سر هذا التشريع، فضلا
عن تفاوت أحكام أفعالها، من ركوع وسجود، وقيام وقعود، وتلاوة وذكر؟ فنجد
الركوع لا يتكرر في الركعة الواحدة، بخلاف السجود، ونجد التلاوة مخصوصة
بحال القيام دون القعود، ودون الركوع والسجود، وهكذا تفاوت الأذكار بين
حالات الانتقال وأحوال الاستقرار، فمن الذي يحيط عقله علماً ببعض ما في هذا
الخضم الزَّخار من حكم بالغة فضلا عن الإحاطة بها جميعا، وكذلك اختلاف
فروض الليل عن فروض النهار، بحيث يسر بالقراءة في فروض النهار ويجهر بها في
فروض الليل، واختلاف فرض الجمعة عن فرض الظهر -مع أنه بديل عنه- في هذا
الحكم، وكذلك في عدد الركعات وسائر الأحكام، أوترى أن هذه الأحكام كلها لو
لم يأت بها شرع يمكن لهذا العقل أن ينفذ إليها ببصيرته، فيرتبها هذا
الترتيب، ويجعلها على هذا النسق؟ كلا، وإنما هي جميعا من خصائص الشرع؛ الذي
يتعالى عن مدارك العقل، وقل مثل ذلك في الطهارات، فنجد الوضوء مثلاً يختص
بأعضاء معينة من الجسد، مع أن الحدث حكم معنوي قائم بالجسد كله، وقد يكون
مورده بعيدا عن تلك الأعضاء، ويجب الغسل لأسباب لا يتصور العقل أن تكون
منشأ لهذا الحكم، فكم مما يتلبس به الجسد ما هو أنجس وأقذر من موجبات الغسل
مع أنه لا يجب به، وكذلك أنصبة الزكاة ومقاديرها ليس للعقل البشري أي نصيب
في تحديدها، ناهيك بالحج وخصائصه كالإحرام والاضطباع والطواف والسعي ورمي
الجمار والوقوف بعرفة والإفاضة إلى المزدلفة والمبيت بها والمبيت بمنى، وما
يعروه من أحكام شتى خارجة عن مدارك البشر فهل ترى أن العقل البشري بإمكانه
أن يحدد هذه الأحكام، ويقدر مقاديرها المفروضة ويضبط هذه الحركات وفق مراد
الله تعالى؟، وقل مثل ذلك في جميع التعبدات والأحكام المشروعة لضبط حياة
الإنسان، وتنظيم تصرفاته، فإنها شرعت وفق حكم ربانية تكل العقول عن تصورها.
ولو كان العقل هو
مصدر الأحكام وموئل الاحتكام؛ لنيطت حجة الله به وحده، ولم يكن داع لإرسال
الرسل وإنزال الكتب والقيام بإبلاغ الدعوة بين الناس، وهذا ما يرده ما نجده
في القرآن من النصوص الدالة على أن حجة الله على خلقه إنما هي منوطة
برسالاته، فقد قال تعالى: ] لئَلاَّ يَكُونَ
لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [([28])، وقال: ]
وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً[([29]) الإسراء، وقال: ] يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ
رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنْ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا
مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ
وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ[([30])، وقال: ]
وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا
لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ % أَنْ تَقُولُوا
إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ
كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ %
أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى
مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا
سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا
كَانُوا يَصْدِفُونَ[([31])، وقال: ]
يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ
يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا[([32])، وقال: ]
يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ
عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنْ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا
هُمْ يَحْزَنُونَ % وَالَّذِينَ كَذَّبُوا
بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ
فِيهَا خَالِدُونَ[([33])، وقال في أهل النار: ] وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ
رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ
لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى[([34])، وقال: ]وَقَالَ
الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ
عَنَّا يَوْماً مِنْ الْعَذَابِ % قَالُوا
أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى
قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ[([35])، وقال: ]كُلَّمَا
أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ
% قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ
فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ
إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ[([36])، إلى غيرها من الآيات الكثيرة
الناصة على أن حجة الله على عباده إنما تقوم برسالاته، لا بما جعل فيهم من
العقول وحدها، وهذا لا ينافي أن يكون العقل من أسباب الهداية عندما يساس
بشرع الله ويراض به، بل كثيرا ما يكون وسيلة للتمييز بين صحيح المعاني
وباطلها في متشابه الوحي، فإنه – مع توفيق الله تعالى وتسديده – يبصر صاحبه
بمقاصد المتشابهات الصحيحة، وذلك بالجمع بينها وبين المحكمات التي هي أم
الكتاب.
ولأن العقل ليس
بإمكانه إنزال الأحكام في منازلها من القضايا إلا بشرع يسوسه، قال المحققون
من العلماء بأن أحكام الله جميعا تستقى من ينابيع الوحي، ولو فيما تقوم
حجته بالعقول كوحدانية الله سبحانه وسائر صفاته العظيمة، وفي هذا يقول
الإمام السالمي رحمه الله تعالى:
فحاكم الشرع قضى بما
جرىفإنه وإن يكن يستحسن فذاك باعتبار ما للطبعوربما أدرك وصف النقصلكنه لا باعتبار ما بهفسقط الدور الذي قد ذكرالا العقل يا ذا
فاتركن عنك المراأشيا وأشياء لها يستهجنملائم لا باعتبار الشرعوصفة الكمال فيما يحصيتكليفه الذي أتى من ربهوثبت الحق الذي قد بهراوبهذا تدرك أن دعوى
تحكيم العقول في النصوص الشرعية دعوى مرفوضة عند أولي البصائر، وهي لا تصدر
إلا ممن مرضت قلوبهم وانطمست بصائرهم فآثروا الهوى على الهدى، والباطل على
الحق، وانتكسوا إلى الحضيض الأسفل من الضلال، وليس من وراء دعوتهم إلى ذلك
إلا نسف الدين، وإطفاء جذوته، وتجفيف ينابيعه، ونشر الفساد في الأرض،
وإباحة الفحشاء، واستساغة المنكرات، وتعطيل شرع الله سبحانه بإباحة محارمه
ومنع مباحاته، فهب أن أحدا من الناس رجع إلى طبيعة عقله في استحسان الأعمال
واستقباحها واستباحة الأفعال وتحريمها، ألا يكون عقله يمنعه من أكل لحوم
الحيوانات، فإنها كائنات حية ذات أرواح تحس بها فتتألم كما يتألم الإنسان،
وتنعم كما ينعم، وهي بطبعها تحب الحياة وتكره الموت، فكيف يستسيغ العقل أن
يعدو عليها الإنسان فيسلبها حياتها، ويتنعم بأكل لحومها، لولا أن شرع الله
ورد بذلك، والله هو مالكها ومالك كل شيء، فإباحة الشرع لها رفعت هذا الحجر
الذي يتراءى للعقل، والله لا يسأل عما يفعل، فما بال هؤلاء الذين يدعون
تحكيم العقول في موارد النصوص يستسيغون أكل الحيوانات ويستطيبون لحومها،
فقد كان الواجب عليهم – حسب تأصيلهم لقبول الأحكام ورفضها – أن يحرموا على
أنفسهم أكل أي شيء من الحيوانات؟!.هذا؛ وأما ما
يتعللون به في رد بعض الأحكام من كون أدلتها ظنية، فمع التسليم بظنيتها لا
عذر لهم في ردها، فإن هذه الأحكام إنما تتعلق بالأعمال لا بالمعتقدات، ومن
المعلوم أن الأحكام العملية لو توقفت على القطعي من الأدلة الشرعية لتعطل
جانب كبير من أحكام الشريعة ، فإن معظم أحكامها مبنية على الأدلة الظنية،
كعمومات الدلالات أو الروايات الآحادية، وأنت تدري أن السلف الصالح فرقوا
بين العقيدة والأعمال، فلم يقبلوا في العقيدة إلا القطعي ثبوتا ودلالة،
بينما أخذوا بالظني في الأعمال، وقد درج على ذلك الصحابة والتابعون، ومن
سار على نهجهم اتباعا للحق، واعتصاما بالشرع، لذلك عولوا على عمومات الكتاب
والسنة، والروايات الآحادية في باب الأعمال والأقوال والأخلاق، اللهم إلا
إن كانت معارضة بما هو أقوى منها دلالة أو متنا، وإنما كانوا يقفون عند
حدود التواتر النّصي في العقيدة لأنها لا تقوم إلا على القطع، وما كانوا
يعذرون أحدا في مخالفته لهذه الأدلة بسبب ظنيتها بعدما تقوم عليه حجتها،
لذلك اشتد نكير ابن عمر رضي الله عنهما على من عارض ما يرويه لهم عن رسول
الله r تشبثا بما حفظوه عن الخلفاء الراشدين
حتى قال: "تكاد تنزل عليكم قارعة من السماء، أقول لكم: "قال رسول الله r وتقولون لنا، قال أبو بكر وقال عمر" ولئن كان
ما يروى عن النبي r لا يجوز الاعتراض عليه
بأقوال خيرة أصحابه المقربين إليه، كأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فأنى
يسوغ الاعتراض عليه بأهواء النفوس وضلالات العقول، ولله در إمامنا السالمي
رحمة الله عليه حيث قال:
ولا تناظر بكتاب
اللهمعناه لا تجعل له نظيرا ولا كلام المصطفى
الأواهولو يكون عالما خبيراوقال:لا نقبل الخلاف فيما
وردا فيه عن النبي شيء أبدا
وقال:
حسبك أن تتبع
المختارا وإن يقولوا خالف الآثارا
ولئن كان غير سائغ
ترك ما جاء عن النبي r لأجل اتباع آثار أهل
العلم، فكيف يسوغ ترك ما صح عنه صلوات الله وسلامه عليه وتبعه عليه علماء
الأمة جيلا بعد جيل، كما في مسألتي اللحية والغناء المذكورتين في السؤال.
أما اللحية: فقد
استفاض عن النبي r الأمر بتوفيرها فضلا عن
سنته العملية في ذلك وهو عليه الصلاة والسلام قدوة أهل الإيمان وفي أعماله
أسوة لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر، قال الله تعالى: ]لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ
أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ
وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً[([37])، ومما ثبت في هذا الباب ما رواه
الربيع في مسنده الصحيح عن أبي عبيدة عن جابر ابن زيد عن أبي سعيد الخدري:
"أن النبي r أمر بإحفاء الشارب وإعفاء
اللحى"، وجاء بهذا اللفظ عند مسلم في صحيحه وأبي داود والبيهقي في سننهما
وأبي عوانة في مسنده من طريق ابن عمر رضي الله عنهما وهو في سنن الترمذي
بلفظ: "إن رسول الله r أمرنا بإحفاء الشوارب
وإعفاء اللحى"، قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح، وروى البخاري من طريق ابن
عمر أيضا أن النبي r قال: "خالفوا المشركين
وفروا اللحى وأحفوا الشوارب" ورواه من طريقه أيضا بلفظ: "أنهكوا الشوارب
وأعفوا اللحى"، ورواه من طريقه مسلم في صحيحه والنسائي والترمذي والبيهقي
في سننهم بلفظ: "أحفوا الشوارب وأعفوا اللحى"، وقال الترمذي هذا حديث حسن
صحيح، ورواه ابن أبي شيبة في مسنده كذلك، وهو في مسند أبي يعلى من طريقه
بلفظ: "أعفوا اللحى وأحفوا الشوارب"، وفي رواية أخرى لمسلم بلفظ: "خالفوا
المشركين أحفوا الشوارب وأعفوا اللحى"، وروى مسلم كذلك في صحيحه وأبو عوانة
في مسنده من طريق أبي هريرة t قال: قال
رسول الله r : "جزوا الشوارب وأرخوا اللحى،
خالفوا المجوس".
وروى مسلم بإسناده
إلى عبدالله بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله r : "عشر من الفطرة قص الشارب، وإعفاء اللحية،
والسواك، واستنشاق، الماء وقص الأظفار وغسل البراجم ونتف الإبط وحلق
العانة، وانتقاص الماء" قال زكريا: قال مصعب – من رجال إسناد الحديث– :
"ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة"، زاد قتيبة: قال وكيع – وهما من رجال
إسناده أيضا – : "انتقاص الماء يعني الاستنجاء"، ورواه أيضا من هذا الطريق
أحمد وإسحاق في مسنديهما، وأبو داود والترمذي والبيهقي في سننهم وابن خزيمة
في صحيحه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وفي السنن الكبرى للنسائي:
قرئ على الحارث بن مسكين وأنا أسمع عن ابن وهب عن حنظلة بن أبي سفيان عن
نافع عن ابن عمر أن رسول الله r قال:
"الفطرة قص الأظفار وحلق العانة وإحفاء الشوارب وإعفاء اللحى" .
وفي صحيح ابن حبان
بإسناده إلى أبي هريرة أن رسول الله r قال:
"إن فطرة الإسلام الغسل يوم الجمعة والاستنان وأخذ الشارب وإعفاء اللحى فإن
المجوس تعفي شواربها وتحفي لحاها فخالفوهم حدوا شواربكم، وأعفوا لحاكم"
وفي المعجم الأوسط للطبراني بإسناده إلى أبي هريرة أيضا قال: قال رسول الله
r : " وفروا اللحى وخذوا من الشوارب
وانتفوا الآباط واحذروا الفلقتين" وروى أحمد في مسنده من طريق ابن عمر
يقول: قال رسول الله r : "أعفوا اللحى
وأحفوا الشوارب"، ومن روايته أيضا: يقول أمر رسول الله r أن تعفى اللحى وأن تجز الشوارب" ومن طريق أبي
هريرة قال: قال رسول الله r : قصوا الشوارب
وأعفوا اللحى، ومن طريقه أيضا: "جزوا الشوارب وأعفوا اللحى وخالفوا
المجوس"، ومن طريقه قال: قال رسول الله r:
خذوا من الشوارب وأعفوا اللحى" وروى ابن أبي شيبة في مصنفه بإسناده إلى
عبيدالله بن عتبة قال: جاء رجل من المجوس إلى رسول الله r وحلق لحيته وأطال شاربه، فقال له النبي r: "ما هذا؟"، قال: هذا ديننا، قال: " في ديننا أن
نجز الشارب ونعفي اللحية"، وروى من طريق عائشة رضي الله عنها قالت: قال
رسول الله r : من الفطرة قص الشارب وإعفاء
اللحية" وروى الطبراني في كبيره وأوسطه من طريق ابن عباس قال: لما فتح رسول
الله r مكة قال: "إن الله U ورسوله حرم عليكم الخمر وثمنها وحرم عليكم
الخنازير وأكلها وثمنها وقال: قصوا الشوارب وأعفوا اللحى ولا تمشوا في
الأسواق إلا وعليكم الأزر، إنه ليس منا من عمل بسنة غيرنا" وروى في كبيره
من طريق ابن عباس أيضا قال: قال رسول الله r:
"أوفوا اللحى وقصوا الشوارب" قال: "وكان إبراهيم خليل الرحمن يوفي لحيته
ويقص شاربه"، وروى في كبيره أيضا من طريق عثمان بن عبيد الله بن رافع أنه
رأى أبا سعيد الخدري وجابر بن عبدالله وعبدالله بن عمر وسلمة بن أكوع وأبا
أسيد البدري ورافع بن خديج وأنس بن مالك y
يأخذون من الشوارب كأخذ الحلق ويعفون اللحى وينتفون الآباط.
وهذه الروايات كلها
تفيد مشروعية توفير اللحى في الإسلام ووجوبه على المسلم، فإنها صريحة في
أمره r به وأمره للوجوب إلا أن تصرفه قرينة
إلى الندب أو الإباحة، والقرائن هنا تؤكد الوجوب، فإنه r بين أن هذه هي الفطرة وأنها سنة هذه الأمة
المسلمة، وأن خلاف ذلك من سنة غيرنا، وليس منا من عمل بسنة غيرنا، وقد تلقت
الأمة بجميع مذاهبها الفكرية والفقهية هذه الروايات بالقبول فعولت عليها
قولا وعملا جيلا بعد جيل، من لدن الصحابة والتابعين إلى أن غزيت الأمة في
عقر دارها، وأذيبت شخصيتها، وجردت من هويتها وفرض عليها الغازي أفكاره
وعاداته، وسلخها من جميع مقوماتها، وخيل إليها أن تقدمها ورقيها لا يكونان
إلا بانسياقها وراء ما زينه لها، فانساق الناس زرافات ووحدانا يردون من هذا
المورد المستنقع الآسن، متساقطين في المهالك تساقط الفراش على ألسنة
النار، فكان ذلك سببا لذهاب ريح الأمة إذ أصبحت كالريش في مهب الرياح،
فاقدة كرامتها وعزتها تداس خدودها بمناسم الجبروت في أوحال الهوان، وكانت
من قبل أن يجثو الغازي بثقله على صدرها لا ترى مخالفة ما دلت عليه هذه
الروايات إلا من مظاهر التخلف والانحطاط، فلذلك كانت تستنكر صدور ذلك حتى
من الفساق، بل كان العلماء يلحقون من أتى بهذه التصرفات الشاذة بالمجوس،
كما قال أبو شامة: وقد حدث قوم يحلقون لحاهم وهو أشد مما نقل عن المجوس
أنهم كانوا يقصونها.
فليت هؤلاء الذين
يروجون لهذه السفاسف باسم الدين والدعوة تبقى في نفوسهم غيرة على سلوك
آبائهم الماضين وما كانوا عليه من الأنفة أن يعزى إلى أحدهم شيء من هذه
التصرفات إن لم تبق فيهم غيرة على الدين.
وقبيح بنا وإن قدم
العهـ ـد هوان الآباء والأجداد
نعم، عندما أصبحت
الأمة تفكر بغير ألبابها، وتبصر بغير مقلها، استحسنت كل ما يلقى به في
ساحتها من خارج محيطها من النفايات والأقذار، حتى لو تنخم أحد من أعداء
الأمة لتسارع سواد الأمة إلى نخامته يلعقونها بألسنتهم ويبتلعونها بلهواتهم
ويتمعكون بآثارها.
تلك هي الانتكاسة
التي هوت بالأمة إلى الحضيض الأسفل فآثرت النزول إلى قيعان الهوان على
الارتقاء في ذرى العز والكرامة.
وأنتم تدرون أن
النبي r كان حريصا على جعل الشخصية المسلمة
متميزة بمظهرها ومخبرها، ومستقلة بفكرها وسلوكها، ومعتدة بأصولها وتأريخها،
فلذلك كان يعلل ما يأمرها به في هذه الروايات بمخالفة المشركين واليهود
والمجوس، مع تنبيهه بأن هذه هي الفطرة السليمة، فإن اللحية من مظاهر
الرجولة وقد دل القرآن الكريم على محافظة الأنبياء السابقين عليها فيما
حكاه من قصة موسى وهارون في قوله: ]قَالَ
يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي[([38])، ولا يماري أحد في كون الشخصية
المحمدية عليها أفضل الصلاة والتسليم كانت متصفة بكثاثة اللحية، وكان هدي
أصحابه عليه الصلاة والسلام المحافظة على ذلك فأي قدوة يبتغي المسلم إن لم
يكن قدوته رسول الله r والنبيين من قبله
وأصحابه الكرام.
هذا، ومهما اختلفت
العبارات في تلك الروايات فإن مؤداها واحد إذ الأمر بالإعفاء والتوفير
والإرخاء والإيفاء يتنافى مع الحلق والتقصير؛ لأن كلا من هذه الألفاظ دال
على التنمية والتكثير، فالإعفاء: هو جعل الشيء عافيا أي ناميا كثيرا، ومنه
قوله تعالى: ] ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ
السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوا [([39])، أي كثروا ونموا، وكذلك قول
الشاعر:
بمستأسد القريان عاف
نباتهتساقطه والرحلَ من
صوت هدهدوقول غيره:ولكنا نعض النصل
منهابأسوق عافيات الشحم
كومفمن الواضح بداهة أن
المراد بعاف نباته: نام ، وكذلك عافيات الشحم: ناميات، ولا يدل التوفير
والإرخاء والإيفاء إلا على هذا المعنى، فكيف يجتمع ذلك مع الاستئصال أو
التقصير؟!، ومما يدل على ذلك أيضا ما رواه مسلم من طريق أبي هريرة بلفظ:
"أرجئوا" أي اتركوا، وفسر ذلك الحافظ ابن حجر بأخروها، ومؤدى الكل واحد.فكيف تسوغ بعد هذا
المماحكة والمجادلة في هذا الأمر بعدما وضح الصبح لذي عينين، وكانت هذه
الروايات موضع تقدير وقبول من جميع الأمة بغير خلاف عندما كانت حرة في
إرادتها لا تملى عليها من خارج محيطها؟!.
أما محاولة التملص
من هذا بدعوى أن هذه الروايات لم تصل حد التواتر القطعي، فهي من المجادلة
بالباطل لإدحاض الحق؛ لأنها خروج عن منهج الأمة وتعطيل لجانب كبير من
الدين، وإهمال لطائفة لا يستهان بها من أدلة الشرع الحنيف، لأن مما درج
عليه السلف والخلف منذ عهد الرسالات المشرقة أن جانب التطبيق والعمل لا
يتوقف على التواتر في النقل – كما سبق بيانه – وإلا فما بال النبي r يبعث بعوثه إلى الأمصار وحدانا وكانت الحجة تقوم
بهم والشريعة تبسط سلطانها في الناس برواياتهم، وقد درجت الأمة على هذا
المنوال، وما شذ عنه إلا من إيفت حواسهم عن إدراك الحق فجادلوا هذه
المجادلات الباطلة؛ التي لو أخذت بها الأمة لضاقت ذرعا بدينها وأعياها
الدليل الذي تفرق به بين الحق والباطل وتميز به بين الخطأ والصواب، فأنى
لها بالمتواتر لحل مشكلاتها الدينية من عباداتها ومعاملاتها جميعا؟، ولو
أخذت بهذا لانحصر دينها في العقيدة دون العمل، وفي المجملات دون المفصلات،
وفي الكليات دون الجزئيات وأنى بهذا يستقيم ركن الدين، وتسعد الأمة باتباع
شريعة ربها؟ ، أوليس في هذه الدعوة سعي حثيث إلى نقض بنيان هذا الدين وهد
أركانه وتقليص شريعته وتضييق مساحته وحل عراه؟.
أما دعوى أن الفسوق
لا يكون بمخالفة هذه الأوامر، فهي مردودة بأن الأمة لما تلقتها بالقبول
وأجمعت على صدورها من النبي الأكرم r لم يبق
ريب لمرتاب أن مخالفتها عصيان للنبي r
ومخالفة لأمره وخروج عن سبيل المؤمنين، وقد قال تعالى: ]وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا
تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ
نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً[([40])، وقال: ]لا
تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً
قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذاً
فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ
فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63[([41])، وقال: ]
وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً [([42]) وقال: ]وَمَنْ
يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ
فِيهَا أَبَداً[([43])، وليت شعري بماذا يعتذر الإنسان
عن مخالفته هذه الأوامر بعد أن بلغته، وقامت عليه حجتها، وأطبق السلف
والخلف على التعويل عليها، والاستناد إليها في الفتوى والعمل؟!.
ولا ريب أن علماء
مذهبنا في هذا كانوا أكثر الناس استمساكا بهذه الروايات ودلالاتها سواء
المشارقة والمغاربة منهم، وحسبي أن أذكر منهم مثالين مشرقيا ومغربيا وهما
إمامنا نور الدين السالمي وشيخنا العلامة الصمصام أبو إسحاق إبراهيم إطفيش
رحمهما الله.
ففي جوهر النظام
للإمام السالمي قوله:
والملكان قيل
الشاربانفطهر الموضع تكريما لهمهم للحى منهم يحلقوناوأنت خالفهم فجز الشارباأتى عن المختار هذا الحالبل قيل إن قصها كبيرةمقعدهم من ثم يقطعانوخالف الأعجام في أفعالهموشعر الشارب يتركوناووفر اللحية حكما واجباصح بذاك الفعل والمقالفالمنع سنة بها شهيرة